فصل: تفسير الآيات (20- 25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير



.تفسير الآيات (20- 25):

{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24) وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)}

.شرح الكلمات:

{يحسبون الأحزاب}: أي يحسب أولئك المنافقون الجبناء الأحزاب وهم قريش وغطفان.
{لم يذهبوا}: أي لم يعودوا إلى بلادهم خائبين.
{وإن يأت الأحزاب}: أي مرة أخرى فرضاً.
{يودوا لو أنهم بادون في الأعراب}: أي من جبنهم وخوفهم يتمنَّون أن لو كانوا في البادية مع سكانها.
{يسألون عن أنبائكم}: أي إِذَا كانوا في البداية لو عاد الأحزاب يسألون عن أنبائكم أي أخباركم هل انهزمتم أو انتصرتم.
{ولو كانوا فيكم ما قاتلوا إلا قليلا}: أي لو كانوا بينكم في الحاضرة ما قاتلوا معكم إلا قليلا.
{أسوة حسنة}: أي قدوة صالحة تقتدون به صلى الله عليه وسلم في القتال والثبات في مواطنه.
{هذا ما وعدنا الله ورسوله}: من الابتلاء والنصر.
{وصدق الله ورسوله}: في الوعد الذي وعد به.
{وما زادهم إلا إيماناً وتسليما}: أي تصديقا بوعد الله وتسليما لأمر الله.
{صدقوا ما عاهدوا الله عليه}: أي وفوا بوعدهم.
{فمنهم من قضى نحبه}: أي وفى بنذره فقاتل حتى استشهد.
{ومنهم من ينتظر}: أي ما زال يخوض المعارك مع رسول الله وهو ينتظر القتل في سبيل الله.
{وما بدلوا تبديلا}: أي في عهدهم بخلاف المنافقين فقد نكثوا عهدهم.
{ورد الله الذين كفروا بغيظهم}: أي ورد الله الأحزاب خائبين لم يظفروا بالمؤمنين.
{وكفى الله المؤمنين القتال}: أي بالريح والملائكة.

.معنى الآيات:

ما زال السياق في سرد أحداث غزوة الأحزاب فقوله تعالى: {يحسبون الأحزاب لم يذهبوا} أي بحسب أولئك المنافقون الجبناء الذين قالوا إن بيوتنا عورة وقالوا لإِخوانهم هلم إلينا أي اتركوا محمداً في الواجهة وحده إنهم لجبنهم ظنوا أن الأحزاب لم يعودوا إلى بلادهم مع أنهم قد رحلوا وهذا منتهى الجبن والخوف وقوله تعالى: {وإن يأت الأحزاب} أي مرة أخرى على فرض وتقدير {يودوا} يومئذ {لو أنهم بادون في الأعراب} أي خارج المدينة مع الأعراب في البادية لشدة خوفهم من الأحزاب الغزاة، وقوله تعالى: {يسألون عن أنبائكم} أي أخباركم هل ظَفِرَ بكم الأحزاب أو لا، {ولو كانوا فيكم} أي بينكم ولم يكونوا في البادية {وما قاتلوا إلا قليلا} وذلك لجبنهم وعدم إيمانهم بفائدة القتال لكفرهم بلقاء الله تعالى وما عنده من ثواب وعقاب هذا ما تضمنته الآية الأولى (20).
وقوله تعالى في الآية الثانية (21): {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا} أي: لقد كان لكم أيها المسلمون اي: من مؤمنين صادقين ومنافقين كاذبين في رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة أي قدوة صالحة فاقتدوا به في جهاده وصبره وثباته، فقد جاع حتى شد بطنه بعصابة وقاتل حتى شُجّ وجهه وكسرت رباعيته ومات عمه وحفر الخندق بيديه وثبت في سفح سلع أمام العدو قرابة شهر فأتسوا به في الصبر والجهاد والثبات إن كنتم ترجون الله أي تنظرون ما عنده من خير في مستقبل أيامكم في الدنيا والآخرة وترجون اليوم الآخر أي ترتقبونه وما فيه من سعادة وشقاء، ونعيم مقيم أو جحيم وعذاب أليم.
وتذكرون الله تعالى كثيرا في كل حالاتكم وأوقاتكم، فاقتدوا بنبيكم فإِن الاقتداء به واجب لايسقط إلاّ عن عجز والله المستعان.
وقوله تعالى في الآية الثالثة في هذا السياق (22): {ولما رأى المؤمنون الأحزاب} أي لما رأى المؤمنون الصادقون جيوش الأحزاب وقد أحاحطت بهم {قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله} بخلاف ما قاله المنافقون حيث قالوا {ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا} وقوله: {وما زادهم} أي رؤيتهم للأحزاب على كثرتهم {إلاّ إِيماناً} بصادق وعد الله {وتسليما} لقضائه وحكمه، وهذا ثناء عطر على المؤمنين الصادقين من ربهم عز وجل.
وقوله تعالى: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه} هذا ثناء آخر على بعض المؤمنين الذين لما تخلفوا عن بدر فتأسفوا ولما حصل انهزام لهم في أُحد عاهدوا الله لئن أشهدهم الله قتالاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليقاتلن حتى الاستشهاد فأخبر تعالى عنهم بقوله فمنهم من قضى نحبه أي وفي بنذره فقاتل حتى استشهد ومنهم من ينتظر القتل في سبيل الله، وقوله تعالى: {وما بدَّلوا تبديلا} أدنى تبديل في موقفهم فثبتوا على عهدهم بخلاف المعوقين من المنافقين فإِنهم بدلوا وغيروا ما عاهدوا الله عليه وقوله تعالى: {ليجزي الله الصادقين بصدقهم} أي أجرى تعالى تلك الأحداث فكانت كما قدرها في كتاب المقادير، ليجزي الصادقين بصدقهم فيكرمهم وينعمهم في جواره ويعذب المنافقين بناره إن شاء ذلك فيميتهم قبل توبتهم، أو يتوب عليهم فيؤمنوا ويوحدوا ويدخلوا الجنة مع المؤمنين الصادقين وهو معنى قوله: {ويعذب المنافقين إن شاء} ذلك لهم قضاء وقدراً أو يتوب عليهم فيتوبوا فلا يعذبوا، وقوله: {إن الله كان غفوراً رحيما} إخبار منه تعالى عن نفسه بأنه كان ذا ستر على ذنوب التائبين من عباده رحيما بهم فلا يعاقبهم بعد توبتهم.
وقوله تعالى في آخر هذا السياق (25): {ورد الله الذين كفروا} وهم قيرش وكنانة وأسد وغطفان ردهم بغيظهم أي بكربهم وغمهم حيث لم يظفروا بالرسول والمؤمنين ولم يحققوا شيئا مما أمّلوا تحقيقه، وكفى الله المؤمنين القتال حيث سلط على الأحزاب الريح والملائكة فانهزموا وفروا عائدين إلى ديارهم لم ينالوا خيراً. وكان الله قوياً على إيجاد ما يريد إيجاده عزيزاً أي غالباً على أمره لا يمتنع منه شيء أراده.

.من هداية الآيات:

1- تقرير أن الكفر والنفاق صاحبهما لا يفارقه الجبن والخور والشح والبخل.
2- وجوب الائتساء برسول الله في كل ما يطيقه العبد المسلم ويقدر عليه.
3- ثناء الله تعالى على المؤمنين الصادقين لمواقفهم المشرفة ووفائهم بعهودهم.
4- ذم الانهزاميين الناكثين لعهودهم الجبناء من المنافقين وضعاف الإِيمان.
5- بيان الحكمة في غزوة الأحزاب، ليجزي الصادقين...... إلخ.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)}

.شرح الكلمات:

{ظاهروهم}: أي ناصروهم ووقفوا وراءهم يشدون أزرهم.
{من صياصيهم}: أي من حصونهم والصياصي جمع صيصيَّة وهي كل ما يمتنع به.
{وقذف في قلوبهم الرعب}: أي ألقى الخوف في نفوسهم فخافوا.
{وأرضاً لم تطأوها}: أي لم تطأوها بعد وهي خبير إذ فتحت بعد غزوة الخندق.

.معنى الآيات:

قوله تعالى: {وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب} هذا شروع في ذكر غزوة بني قريظة إذ كانت بُعيد غزوة الخندق في السنة الخامسة من الهجرة في آخر شهر القعدة وخلاصة الحديث عن هذه الغزوة أنه لما ذهب الأحزاب واد الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون إلى المدينة وكان بنو قريظة قد نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب من المشركين عوناً لهم على رسول الله والمؤمنين فلما ذهب الأحزاب وانصرف الرسول والمؤمنون من الخندق إلى المدينة فما راع الناس إلا ومنادي رسول الله صلى الله عليه وسلم ينادي إلى بني قريظة فلا يصليّن أحدكم العصر إلا ببني قريظة وهي على أميال من المدينة وذلك أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم ظهر ذلك اليوم فقال يا رسول الله وضعت السلاح إن الله يأمرك بالسير غلى بني قريظة فقام رسول الله وأمر منادياً ينادي بالذهاب إلى بني قريظة وذهب رسول الله والمسلمون فحاصروهم قرابة خمس وعشرين ليلة وجهدهم الحصار وقذف الله في قلوبهم الرعب فقال لهم رسول الله: «أتنزلون على حكمي» فأبوا فقال: «أتنزلون على حكم سعد بن معاذ؟» فقالوا نعم فحكمه فيهم فحكم بأن يُقتل الرجال وتسبى الذراري والنساء وتقسم الأموال، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم مقرراً للحكم «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سموات». فحبسهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في دار بنت الحارث من نساء بني النجار وخرج إلى سوق المدينة فحفر فيها خندقاً ثم جيء بهم وفيهم حيي بن أخطب الذي حزّب الأحزاب وكعب بن اسد رئيس بني قريظة، وأمر علياً والزبير بضرب أعناقهم وطرحهم في ذلك الخندق.
وبذلك انتهى الوجود اليهودي المعادي بالمدينة النبويّة. والحمد لله.
فقوله تعالى: {وأنزل} أي الله تعالى بقدرته {الذين ظاهروهم من أهل الكتاب} أي ظاهروا الأحزاب وكانوا عوناً لهم على الرسول والمؤمنين وهم يهود بني قريظة {من صياصيهم} أي أنزلهم من حصونهم الممتنعين بها، {وقذف في قلوبهم الرعب} ولذا قبلوا التحكيم فحكّم فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الأوس سعد بن معاذ رضي الله عنه فحكم فيهم بقتل المقاتلة من الرجال وسبي النساء والذراري وهو معنى قوله تعالى: {فريقا تقتلون} وهم الرجال {وتأسرون فريقا} وهم النساء والأطفال، وقوله: {وأورثكم أرضهم} الزراعية {وديارهم} السكنيّة {وأموالهم} الصامتة والناطقة وقوله: {وأرضاً لم تطئوها} أي أورثكم أرضاً لم تطئوها بعد وهي أرض خبير حيث غزاهم رسول الله في السنة السادسة بعد صلح الحديبية وفتحها الله عليهم وقوله: {وكان الله على كل شيء قديرا} تذييل المراد به تقرير ما أخبر تعالى به من نصر أوليائه وهزيمة أعدائه.

.من هداية الآيات:

1- بيان عاقبة الغدر فإِن قريظة لما غدرت برسول الله انتقم منها فسلط عليها رسوله والمؤمنين فأبادوهم عن آخرهم ولم يبق إلاّ الذين لا ذنب لهم وهم النساء والأطفال.
2- بيان صادق وعد الله إذ أورث المسلمين أرضاً لم يكونوا قد وطئوها وهي خيبر والشام والعراق وفارس وبلاد أخرى كبيرة وكثيرة.
3- تقرير أن قدرة الله لا تحد أبداً فهو تعالى على كل شيء قدير لا يعجزه شيء.

.تفسير الآيات (28- 30):

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}

.شرح الكلمات:

{قل لأزواجك}: أي اللائي هن تحته يومئذ وهن تسع طلبن منه التوسعة في النفقة عليهن ولم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يوسع به عليهن.
{فتعالين}: أي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان يومئذ قد اعتزلهن شهرا.
{امتعكن}: أي متعة الطلاق المشروعة على قدر حال المطلق سعة وضيقاً.
{اسرحكن سراحاً جميلا}: أي اطلقطن طلاقاً من غير إضرار بكن.
{تردن الله ورسوله والدار الآخرة}: أي تردن رضا الله ورسوله والجنة.
{فإِن الله أعدّ للمحسنات}: أي عشرة النبي صلى الله عليه وسلم زيادة على الإِحسان العام.
{بفاحشة مبيّنة}: أي بنشوز خلق يتأذى به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
{يضاعف لها العذاب ضعفين}: أي مرَّتين على عذاب غيرهن ممن آذين أزواجهن.
{وكان ذلك على الله يسيرا}: أي مضاعفة العذاب يسيرة هيّنة على الله تعالى.

.معنى الآيات:

شاء الله تعالى أن يجتمع نساء الرسول صلى الله عليه وسلم لما رأين نساء الأنصار والمهاجرين قد وُسّع عليهن في النفقة لوجود يسر وسعة رزق بين أهل المدينة، أن يطالبن بالتوسعة في النفقة عليهن أسوة بغيرهن وكن يومئذ تسعا وهن عائشة بنت ابي بكر، وحفصة بنت عمر، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، وسودة بنت زمعة، وأم سلمة بنت ابي أميّة، وزينب بنت جحش، وميمونة بنت الحارث الهلالية، وجويرية بنت الحارث المصطلقية، وصفيّة بنت حيي بن أخطب النضريّة فأبلغت عائشة ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأثر لذلك، لعدم القدرة على ما طُلب منه وقعد في مشربة له واعتزلهن شهراً كاملا حتى أنزل الله تعالى آية التخيير وهي هذه {يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردنّ الحياة الدنيا وزينتها} من لذيذ الطعام والشراب وجميل الثياب وحلي الزينة ووافر ذلك كله فتعالين إلى مقام الرسول الرفيع {أمتعكن} المتعة المشروعة في الطلاق {وأسرحكن} أي أُطلقكن {سراحاً جميلا} أي لا إضرار معه، {وإن كنتن تردن الله ورسوله} أي رضاهما {والدار الآخرة} أي الجنة {فإِن الله أعدّ} أي هيأ وأحضر {للمحسنات} طاعة الله ورسوله {منكن أجراً عظيما} وهو المقامات العالية في حضرة النبي صلى الله عليه وسلم في دار السلام.
وخيّرهن صلى الله عليه وسلم امتثالا لأمر الله في قوله: {قل لأزواجك} وبدأ بعائشة فقال لها: إني أريد أن أذكر لك أمراً فلا تقضي فيه شيئاً حتى تستأمري أبويك أي تطلبين أمرهما في ذلك وقرأ عليها الآية فاختارت الله ورسوله والدار الآخرة، وتتابعن على ذلك فما اختارت منهنّ امرأة غير الله ورسوله والدار الآخرة فأكرمهن الله لذلك وأنزل على رسوله: {لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج ولو أعجبك حسنهن إلا ما ملكت يمينك وكان الله على كل شيء رقيباً}
وقوله تعالى: {يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبيّنة} أي بخصلة قبيحة ظاهرة كسوء عشرة النبي صلى الله عليه وسلم فإِن الله تعالى {يضاعف لها العذاب} يوم القيامة لأنّ أذيّة رسول الله صلى الله عليه وسلم من ابواب الكفر والعياذ بالله تعالى. {وكان ذلك على الله يسيرا} أي وكان تضعيف العذاب على من أتت بفاحشة مبيّنة شيئا يسيرا على الله لا يعجزه حتى لا يفعله وهذا لأمرين الأول لأن أذيّة الرسول من ابواب الكفر والثاني لعلو مقامهن وشرفهن فإِن ذا الشرف والمنزلة العالية يُستقبحُ منه القبيح أكثر مما يستقبح من غيره.

.من هداية الآيات:

1- مشروعية تخيير الزوجات فإِن اخترن الطلاق تَطَلّقن وإن لم يخترنه فلا يقع الطلاق.
2- كمال أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حيث اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الدنيا وزينتها.
3- مشروعية المتعة بعد الطلاق وهي أن تعطى المرأة شيئا من المال بحسب غنى المطلّق وفقره لقوله تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره}.
4- وجوب الإِحسان العام والخاص، الخاص بالزوج والزوجة والعام في طاعة الله ورسوله.
5- بيان أن سيئة العالم الشريف اسوأ من سيئة الجاهل الوضيع. ولذا قالوا حسنات الأبرار سيّئات المقربين كمثل من الأمثال السائرة للعظة والاعتبار.

.تفسير الآيات (31- 34):

{وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31) يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)}

.شرح الكلمات:

{ومن يقنت منكن لله ورسوله}: أي ومن يطع منكن الله ورسوله.
{نؤتها أجرها مرتين}: أي نضاعف لها أجر عملها الصالح حتى يكون ضعف عمل امرأة أخرى من غير نساء النبي.
{واعتدنا لها رزقا كريما}: أي في الجنة.
{يا نساء النبي لستن كأحد من النساء}: أي لستن في الفضل كجماعات النساء.
{إن اتقيتن}: بل أنتن أشرف وأفضل بشرط تقواكنّ لله.
{فلا تخضعن بالقول}: أي نظراً لشرفكن فلا ترققن العبارة.
{فيطمع الذي في قلبه مرض}: أي مرض النفاق أو مرض الشهوة.
{وقلن قولا معروفا}: أي جرت العادة أن يقال بصوت خشن لا رقة فيه.
{وقرن في بيوتكن}: أي أقررن في بيوتكن ولا تخرجن منها إلا لحاجة.
{ولا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى}: أي ولا تتزين وتخرجن متبخترات متغنجات كفعل نساء الجاهلية الأولى قبل الإسلام.
{إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس}: أي إنما أمركُنَّ بما أمركن به من العفة والحجاب ولزوم البيوت ليطهركن من الأدناس والرذائل.
{واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة}: أي الكتاب والسنة لتشكرن الله على ذلك بطاعته وطاعة رسوله.

.معنى الآيات:

ما زال السياق الكريم مع أزواج النبي أمهات المؤمنين فبعد أن اخترن الله ورسوله والدار الآخرة عن الحياة الدنيا وزينتها اصبحن ذوات رفعة وشأن عند الله تعالى، وعند رسوله والمؤمنين. فأخبرن الرب تبارك وتعالى بقوله: {ومن يقنت منكن لله ورسوله} أي تطع الله بفعل الأوامر وترك النواهي وتطع رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم فلا تعص له أمراً ولا تسئ إليه في عشرة، وتعمل صالحاً من النوافل والخيرات نؤتها أجرها مرتين أي نضاعف لها أجر عملها فيكون ضعف أجر عاملة أخرى من النساء غير أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم. وقوله: {واعتدنا لها رزقاً كريما} أي في الجنة فهذه بشارة بالجنة لنساء النبي أمهات المؤمنين التسع اللاتى نزلت هذه الآيات في شأنهن.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (31) وقوله تعالى: {يا نساء النبي لستن كأحد من النساء إن اتقيتن} أي يا زوجات النبي أمهات المؤمنين إنكن لستن كجماعات النساء إن شرفكن أعظم ومقامكن أسمى وكيف وانتن أمهات المؤمنين وزوجات خاتم النبيين فاعرفن قدركن بزيادة الطاعة لله ولرسوله، وقوله إن اتقيتن أي إن هذا الشرف حصل لكن بتقواكن لله فلازمن التقوى إنكن بدون تقوى لا شيء يذكر شأنكن شأن سائر النساء. وبناء عليه {فلا تخضعن بالقول} أي لا تليِّن الكلمات وترققن الصوت إذا تكلمتن مع الأجانب من الرجال. وقوله تعالى: {فيطمع الذي في قلبه مرض} نفاق أو ضعف غيمان مع شهوة عارمة تجعله يتلذذ بالخطاب وقوله: {وقلن قولا معروفا} وهو ما يؤدي المعنى المطلوب بدون زيادة ألفاظ وكلمات لا حاجة إليها.
وقوله: {وقرن في بيوتكن} أي اقررن فيها بمعنى اثبتن فيها ولا تخرجن إلا لحاجة لابد منها وقوله: {ولا تبرجن} أي إذا خرجتن لحاجة {تبرج الجاهلية الأولى} أي قبل الإِسلام إذ كانت المرأة تتجمل وتخرج متبخترة متكسرة متغنجة في مشيتها وصوتها تفتن الرجال.
وقوله تعالى: {واقمن الصلاة} بآدائها مستوفاة الشروط والأركان والواجبات في أوقاتها مع الخشوع فيها {وآتين الزكاة وأطعن الله ورسوله} بفعل الأمر واجتناب النهى. أمرهن بقواعد الإِسلام وأهم دعائمه. وقوله: {إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً} أي إنما أمرناكن ونهيناكن إرادة إِذهاب الدنس والإِثم ابقاءً على طهركن يا أهل البيت النبوى.
وقوله تعالى: {ويطهركم تطهيراً} أي كاملاً تاماً من كل ما يؤثم ويدس النفس ويدنسها.
وقوله تعالى: {واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة} من الكتاب والسنة وهذا أمر لهنَّ على جهة الموعظة وتعدد النعمة.
وقوله تعالى: {إن الله كان لطيفاً} أي بكم يا أهل البيت خبيراً بأحوالكم فثقوا فيه وفوضوا الأمر غليه. والمراد من أهل البيت هنا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وفاطمة وأبْنَاهَا الحسن والحسين وعليٌّ الصهر الكريم رضي الله عن آل بيت رسول الله أجمعين وعن صحابته اكتعين أبتعين أبصعين..

.من هداية الآيات:

1- لا شرف الا بالتقوى. ان اكرمكم عند الله أتقاكم.
2- بيان فضل نساء النبي وشرفهن.
3- حرمة ترقيق المرأة صوتها وتليين عباراتها إذا تكلمت مع أجنبي.
4- وجوب بقاء النساء في منازلهن ولا يخرجن غلا من حاجة لابد منها.
5- حرمة التبرج وهى أن تتزين المرأة وتخرج بادية المحاسن متبخترة في مشيتها.
6- على المسلم أن يذكر ما شرفه الله به من الإِيمان والإِسلام ليترفع عن الدنايا والرذائل.
7- بيان أن الحكمة هي السنة النبوية الصحيحة.
8- الإِشارة إلى وجود جاهلية ثانية وقد ظهرت منذ نصف قرن وهى تبرج النساء بالكشف عن الرأس والصدور والسيقان وحتى الأفخاذ.

.تفسير الآية رقم (35):

{إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)}

.شرح الكلمات:

{إن المسلمين والمسلمات}: إن الذين أسلموا لله وجوههم فانقادوا لله ظاهراً وباطناً والمسلمات أيضاً.
{والمؤمنين والمؤمنات}: أي المصدقين بالله رباً وإلهاً والنبي محمد نبياً ورسولاً والإِسلام دينا وشرعاً والمصدقات.
{والقانتين والقانتات}: أي المطيعين لله ورسوله من الرجال والمطيعات من النساء.
{والصادقين والصادقات}: أي الصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات.
{والصابرين والصابرات}: أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فلا يتركوها وعن المعاصي فلا يقربوها وعلى البلاء فلا يسخطوه ولا يشتكوا الله إلى عباده والحابسات.
{والخاشعين والخاشعات}: أي المتذللين لله المخبتين له والخاشعات من النساء كذلك.
{والمتصدقين والمتصدقات}: أي المؤدين الزكاة والفضل من أموالهم عند الحاجة إليه والمؤديات كذلك.
{والحافظين فروجهم}: أي عن الحرام والحافظات كذلك الا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم بالنسبة للرجال أما النساء فالحافظات فروجهن الا على ازواجهن فقط.
{والذاكرين الله كثيرا والذاكرات}: أي بالألسن والقلوب فعلى اقل تقدير يذكرن الله ثلاثمائة مرة في اليوم والليلة زيادة على ذكر الله في الصلوات الخمس.
{أعد الله لهم مغفرة}: أي لذنوبهم وذنوبهن.
{وأجراً عظيماً}: أي الجنة دار الأبرار.

.معنى الآيات:

هذه الآية وإن نزلت جواباً عن تساؤل بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم إذ قلن للنبي صلى الله عليه وسلم: ما لنا لا نذكر في القرآن كما يذكر الرجال فأنزل الله تعالى هذه الآية المباركة إن المسلمين والمسلمات، فإن مناسبتها لما قبلها ظاهرة وهي أنه لما أثنى على آل البيت بخير فإن نفوس المسلمين والمسلمات تتشوق لخير لهم كالذى حصل لآل البيت الطاهرين فذكر تعالى أن المسلمين والمسلمات الذين انقادوا لأمر الله ورسوله وأسلموا وجوههم لله فلا يلتفتون إلى غيره، كالمؤمنين والمؤمنات بالله رباً وإلهاً ومحمداً نبياً ورسولاً والإِسلام ديناً وشرعا، كالقانيتن أي المطيعين لله ورسوله والمطيعات في السراء والضراء والمنشط والمكره في حدود الطاقة البشرية، كالصادقين في أقوالهم وأفعالهم والصادقات كالصابرين أي الحابسين نفوسهم على الطاعات فعلا، وعن المحرمات تركا، وعلى البلاء رضاً وتسليماً والصابرات كالخاشعين في صلاتهم وسائر طاعاتهم والخاشعات لله تعالى كالمتصدقين بأداء زكاة أموالهم وبفضولها عند الحاجة غليها والمتصدقات كالصائمين رمضان والنوافل كعاشوراء والصائمات، كالحافظين فروجهم عما حرم الله عليهم من المناكح وعن كشفها لغير الأزواج والحافظات، كالذاكرين الله كثيراً بالليل والنهار ذكر القلب واللسان والذاكرات الكل الجميع أعد الله تعالى لهم مغفرة لذنوبهم إذ كانت لهم ذنوب، وأجراً عظيماً أي جزاء عظيماً على طاعاتهم بعد إِيمانهم وهو الجنة دار السلام جعلنا الله منهم ومن أهل الجنة.

.من هداية الآيات:

1- بشرى المسلمين والمسلمات بمغفرة ذنوبهم ودخول الجنة إن اتصفوا بتلك الصفات المذكورة في هذه الآية وهي عشر صفات أولها الإِسلام وآخرها ذكر الله تعالى.
2- فضل الصفات المذكورة إذ كانت سبباً في دخول الجنة بعد مغفرة الذنوب.
3- تقرير مبدا التساوى بين الرجال والنساء في العمل والجزاء في العمل الذي كلف الله تعالى به النساء والرجال معاً وأما ما خص به الرجال أو النساء فهو على خصوصيته للرجال نصيب مما امتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن والله يقول الحق ويهدي السبيل.